[ مسألة فقهية ] إخراج الصبيان من الصف الأول

الحمد لله ...
وبعد،
فقد كثر النقاش في مسألة حكم إخراج الصبيان من الصف الأول، وعدم تمكينهم من الصلاة فيه مع وجود من هو أكبر منهم وأعلم.
فأحببت أن أكتب هذه الأسطر لعل أن يكون فيها نفع لمن أراد الوقوف على السُّنة وهدي السلف الصالح في هذه المسألة التي تتعلق ببعض أحكام المساجد والصلاة.

1- دلت السُّنة الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بأن يليه في الصَّلاة أولي الأحلام والنهى، وهذه الصفة لا تكون إلَّا في الكبار.
- فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليليني منكم أُولو الأحلام والنُهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» - ثلاثًا - [رواه مسلم (905)]

وقد بوب أهل العلم على هذا الحديث في مصنفاتهم بما يدل على تقدم الكبار وتأخر الصغار في الصفوف التي تليهم، ومن ذلك:
- قال أبو داود رحمه الله في «سننه»: (باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر).

- وقال ابن خزيمة رحمه الله في «صحيحه»: (باب ذكرِ البيان أن أُولي الأحلامِ والنُّهى أحقُّ بالصَّفِّ الأوَّلِ؛ إذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمرَ بأن يلوه).

- وقال أبو عوانة رحمه الله في «صحيحه»: (باب إيجاب تقدم أولي الأحلام والنهى من الإمام، ثم الذين يلونهم، ثم كذلك .. ).

- وقال البغوي رحمه الله في «شرح السُّنة»: (باب من هو أولى بالصف الأول).

- وقال ابن حبان في «صحيحه»: (ذكر الأمر للمأمومين أن يقف منهم وراء الإمام أولو الأحلام والنهى).

فأهل الصف الأول هم الكبار أولي الأحلام والنهى، والذي يليهم في الصفوف هم الصبيان، ثم الذي يليهم النساء، ويدل عليه كذلك عمله صلى الله عليه وسلم، 
ومن ذلك:

- عن أبي مالك الأشعرى رضي الله عنه: ألا أحدثكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال: أقام الصلاة، فصفَّ يعني: الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم. قال: فجعل إذا سجد وإذا رفع رأسه كبر، وإذا قام من الركعتين كبر، وسلم عن يمينه وعن شماله. ثم قال: هكذا صلاة -قال عبد الأعلى: لا أحسبه إلَّا قال:- صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
[رواه أبو داود (677) (باب مقام الصبيان من الصف)]

وفي رواية : عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يليه فى الصلاة الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء.
[رواه البيهقي في «سننه الكبرى» (3/97)، وقال: هذا الإسناد ضعيف، والأول أقوى].

- وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ أن يَليه المهاجرون والأنصار في الصَّلاة ليأخذوا عنه.
[رواه أحمد (13064)، وابن ماجه (977) (باب من يستحب أن يلي الإمام)، والضياء المقدسي في «المختارة» (1926)، وإسناده صحيح].

قلت: وفي تقدم الصبيان إلى الصف الأول أمام أولي الأحلام والنهى مخالف صريحة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنة التي كان يعلمها الناس في الصلاة.
بل روي عنه النهي في تقدم الصبيان إلى الصف الأول.

- فعن راشد بن سعد رحمه الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُقام الصبيان في الصَّف الأول.
[رواه ابن أبي الدنيا في «العيال» (298)، وهو حديث مرسل رجاله ثقات، وهذا الحديث مع إرساله إلَّا أن ما في هذا الباب من الأحاديث والآثار يشهد لصحته]. 

ففي سنن الدارقطني من حديث عبيد الله بن سعيد عن الليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه يرفعه: «لا يتقدّم الصف الأول أعرابي، ولا أعجمي، ولا غلام لم يحتلم».  [ عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش. قال أبو داود روى أحاديث موضوعة واستنكر الذهبي خبره هذا ].

2- فإن تقدّم الصبيان إلى الصف الأول فقد خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أمر به من أن يتقدمه الكبار الذين وصفهم بالحلم والنُهى، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم وعلماء السلف الصالح من بعدهم إذا رؤوا الصَّبيان تقدموا إلى الصف الأول أخَّروهم وعلموهم السُّنة.

ومن ذلك:
- عن إبراهيم النخعي رحمه الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رأى غلامًا في الصف أخرجه.
رواه ابن أبي شيبة (1/413)  (إخراج الصبيان من الصف)،  وهذا الأثر فيه انقطاع، لكن يشهد له:

- عن قيس بن عبّاد قال: قدمت المدينة للقي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما كان فيهم رجل ألقاه أحبُّ إليَّ من أُبي بن كعب رضي الله عنه، فأقيمت الصلاة، فخرج عمر رضي الله عنه ومعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحّاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلّى قال: يا فتى لا يسؤك الله، إني لم آت الذي أتيت بجهالة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «كونوا في الصف الذي يليني»، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك ..
[رواه أحمد (21264)، وعبد الرزاق (2460)، وابن خزيمة (1573)، وابن حبان (5/555)، والحاكم (8604)، وصححه، ووافقه الذهبي، والضياء في «المختارة» (1258) (4/31)، وهو حديث صحيح].
قال أحمد بن حنبل رحمه الله في سبب إخراج أُبي بن كعب رضي الله عنه لقيس بن عباد: إنما كان غلامًا. [«بدائع الفوائد» لابن القيم (3/81)].

قلت: والإمام في هذه الصلاة كان عمر رضي الله عنه ولم ينكر على أُبي بن كعب رضي الله عنه فعله، وكذا من كان موجودًا من الصحابة رضي الله عنهم لم يأت عن أحدهم إنكارًا عليه فدل على أن هذا هو السُّنة.
قلت: وعلى ذلك درج علماء السلف، ولا أعرف لهم مخالف، ومن ذلك:

- عن ابن صهيب رحمه الله قال: كان زر، وأبو وائل إذا رأونا في الصَّفّ ونحن صبيان أخرجونا.
[رواه ابن أبي شيبة (1/413)  (إخراج الصبيان من الصف)]

- عن عبد الكريم بن حكيم رحمه الله أنه كان إذا رأى صبيًّا في الصَّف أخرجه. [رواه ابن أبي شيبة (1/413)]

- قال المحاربي رحمه الله: سمعت سفيان الثوري يقول للغلام إذا رآه في الصف الأول: احتلمت ؟ فإذا قال: لا. قال: تأخر.
[رواه أبو نعيم في «الحلية» (7/15)].

- قال أحمد بن حنبل رحمه الله: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، وتؤخر الصبيان والغلمان ولا يلون الإمام.
[«المغني» (3/57) و«بدائع الفوائد» (3/81)].

- قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: فإن كان صبيًّا لم يبلغ سبع سنين فمنع دخول المسجد لم يكن بذلك بأس، وأما الصف الأول فيمنعون، ولا يجوز إخراج الصبي بلغ سبعًا من المسجد وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلي.  [«مختصر قيام الليل» (ص243)]

- قال ابن حبان في «صحيحه»: ذكر إباحة تأخير الأحداث عن الصف الأول عند حضور أولي الأحلام والنهى.

- قال ابن قدامة في «المغني» (2/26): السُّنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسِّن، ويلي الإمام أكملهم وأفضلهم.

3- قد يُعترض على هذا الفعل بحديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقيم الرجلٌ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه».
[رواه البخاري (6269)، ومسلم (5735)]

وليس في هذا الحديث ما يخالف ما سبق من فعل الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإن هذا خاصٌّ بمجالس الناس العامة، فإن لها أحكامها الخاصة بها، وأما المساجد فلها أحكام تخُصّها تخالف أحكام المجالس والتي منها هنا جواز إقامة الصبيان وإخراجهم من الصف الأول. والله أعلم.

قال ابن رجب رحمه الله في «الفتح» (8/210): ويستثنى من ذلك – يعني: من حديث ابن عمر   السابق - الصبي إن كان في الصف وجاء رجل، فله أن يؤخِّره ويقوم مقامه، كما فعل أبي بن كعب رضي الله عنه بقيس بن عبَّاد، وقد ذهب إليه الثوري وأحمد. اهـ

قال ابن رجب: وهذا مع تساويهما في الصفات ، فإن كان أحدهما أفضل من الآخر توجه أن يُقدَّم الأفضل بغير قرعة ، عملًا بقول النبي «ليليني منكم أولوا الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم».

Pages

كافة الحقوق محفوظة للكاتب 2015 © مدونة أبي عبد الله عادل آل حمدان الغامدي